خمس سنوات متتالية في سجون الحوثيين تجرَّع فيها هذا الشاب مراراتٍ قاسيةً ومخاوفَ فظيعة يصعب وصفها، لفرط ما فيها من تعقيد بين ثنايا تفاصيلها، أمّا الاتهامات الموجهة إليه فكانت كثيرة، وكان هو بريئًا منها كما يقول. كان مجيئه من قريته البعيدة إلى مدينة صنعاء من أجل الدراسة فقط، وليس له هدف آخر، ولكن شاء له الحظ السيّء، وربما البلاغات الباطلة، أن يقضي كل هذه السنوات في سجون عديمة الرحمة، لاتليق مُطْلقًا بكرامة السجناء.
بدر سلطان (24 سنة) من مواليد مديرية صَبِر المَوادِم بمحافظة تعز، وقد تم الترصُّد له ومراقبة حركته، وفجأةً من دون أي تهمة حقيقية تستحق ذلك، تم اعتقاله، عصرًا، بتاريخ 13 يوليو/ تموز من العام 2016، من منزل أحد أقاربه، في شارع الحصبة، وإيداعه في سجن قسم هبرة في صنعاء، ومكث فيه أيامًا معدودة، وهو سجن سيّئ، وكم عانى بين جدرانه من مضايقات نفسية وإهانات لفظية خلال جلسات التحقيق، وبعد ذلك جرى نقله إلى قسم الوحدة في مدينة سَعوان، ليمكثَ فيه شهرين كاملين فازدادت معاناة هذا المتهم المُكبَّل بسيل من التُّهم الزائفة.
بعد ذلك، اقتادوه من قسم الوحدة إلى البحث الجنائي، وبدأوا التحقيق معه من جديد، كأن التحقيقات السابقة لم تكن شيئًا، وفي هذا المكان المخيف، تفاقمت معاناة بدر سلطان؛ فهذا المحقق الجديد أكثر قسوة وفظاظة من المُحقِّقَين السابقَين، وكل شيء كان قاسياً أيضاً، ومن هنا لم يكن أمام الشاب "بدر سلطان" إلا أن يضاعف قوة احتماله، لكن هذه الحيلة لم تنفعه، حتى يئس من لعبة التحقيقات المكررة، واستسلم للعذاب والترهيب بحيث أصبح مستعدا لأن يبصم على أي ورقة أو ملف يتضمن اتهامات باطلة ضده؛ كي يتركوه يستريح أو يطلقوا سراحه، لكنهم نقلوه إلى سجن آخر ليلاقي فيه نفس التعذيب ونفس الظروف البائسة، وبعد حوالي أربع سنوات قضاها في سجون صنعاء تم نقله إلى سجن الصالح في تعز، وهو أكبر مجمع للمعتقلين في اليمن، بحسب تقارير وإفادات منظمات حقوقية، وفيه توفي بعض المعتقلين من شدة التعذيب، بل إنّ بعضهم دخلوه وهم أصحّاء، وخرجوا منه مصابين بالجنون بعد أن خارت معظم قواهم النفسية والبدنية، بسبب الإفراط في التعذيب، كما رأى بدر.
كانت تهمته في كل مرة كاذبة وباطلة حسب قوله، فقد اُتّهِمَ أنه يعمل ضمن خلية تعمل في صنعاء لصالح دول العدوان حسب وصفهم، واتهموه بأنه يعمل ضدهم إعلاميّاً لمصلحة قنوات محلية، وكانت تختلف التهمة قليلًا في كل مرة باختلاف المحقق الذي كان يجرى معه عملية التحقيق، كما ألصقوا بشخصه تهمة أخرى مضمونها أنه كانه يعمل ضمن فريق صحفي تابع للمقاومة في تلك الفترة ضد الحوثيين في تعز، وكان "بدر" يصر كعادته في جميع جلسات التحقيق القاسي، على حقه في إبطال كل التهم المنسوبة إليه، وعدم الإقرار بها، ولكن هذا الإصرار قد جعله يتلقى معاملة طافحة بالقسوة.
تخويف، احتقار للكرامة، وجبات سيئة، تعنيف نفسي وجسدي، وكان يتم نقله من سجن إلى آخر، معصوب العينين، تحت جنح الظلام، كما لو كان مجرمًا حقيقيّاً، وكانت تتم كلبشته من يديه إلى ظهره، وإذلاله بعدة أساليب عند التحقيق معه، إنهم يضغطون على أعصابه بلا هوادة، فكان يعاني بلا حدود من سوء تصرفاتهم التي لا تكف عن تدمير روحه المعنوية، وأحياناً كان يجد نفسه عاجزاً عن الذهاب إلى الحمّام من فرط الإنهاك وآلام الضرب، فكان لا يستطيع ذلك إلا بمساعدة من بعض السجناء، هكذا تتمحور معاناة هذا السجين الضحية حول صنوف عديدة من التعذيب، فقد كان محروماً حتى من استنشاق هواء نقي، ونادراً ما كان يستطيع النوم بشكل طبيعي.
أسوأ ما يتعرض له الشخص المتهم، في الزنازين، هو الحرب النفسية، التي تنهار قوى الجسم بسببها، وفي السجون الحوثية فإن الضحية أو المتعقَل، حتى لو كان بريئاً من كل تهمة تستحق عقوبة الحبس، لا ينجو أبدًا من تلك الحرب التي تدمر الصحة النفسية، وتترك في أعماق النفس جراحًا عميقة قد لا تشفى بمرور الزمن، هكذا يقول بدر سلطان، وهو يتوجَّع، ويتنهّد، ويكاد يذرف الدمع.
بكى بمرارة وذرف دموعاً كثيرة من مشاهد مأساوية تتكرر كل يوم في سجون حوثية شتى، لا تعرفها عدسة الكاميرا الصحفية أو لا تستطيع عيون الراصدين الحقوقيين المدافعين عن حقوق الإنسان أن تخترقها بسهولة.
فترات التعذيب التي ذاقها كانت كثيرة، وكلها مليئة بالقسوة والظلم والتهديدات والشتائم البذيئة، وإذ هو يتذكرها الآن يشعر بالحزن والوجع، لقد كان الرعب ينهش روحه يومًا بعد يوم وليلة تلو أخرى، ولكنه كان يتشبث بالأمل رغم أنف السجّانين القساة، وخصوصًا المحققين الذي تولوا مهمة التحقيق معه، وكان أحيانًا يسقط في مهاوي اليأس والاستسلام، ثم ينهض من جديد، كي يؤكد براءته، وينال حريته المختطفة، تلك سنوات خانقة مُرّة الطعم، لكن زهرة الأمل لم تذبل بداخل هذا الشاب الذي ما زال يتألم إلى اليوم من آثار تلك السجون التي تكتظ بالسجناء والمتعقلين الأبرياء والمنسيين والمفقودين وغيرهم.
في اليمن، منذُ اندلاع الحرب، تُنتهَك حقوق الإنسان بجميع الصور البشعة، وهكذا، كما رأينا، تتم مخالفة المواد القانونية المحلية والدولية التي تحظر وتناهض استعمال التعذيب أثناء عملية التحقيق مع المتهمين بغرض انتزاع المعلومات منهم، وكذلك المواد التي تصون الكرامة الإنسانية، وقد تم إطلاق سراح بدر سلطان من سجن الصالح في صفقة لتبادل الأسرى بين الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً وجماعة أنصار الله (الحوثيين) في سبتمبر/أيلول العام 2019.